فصل: مسألة مات تحت الضرب أو بقي بعد الضرب مغمورا لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يحمل ابنه في المركب ولم يستأذن أمه فيه فغرق:

وسئل عن عبد تزوج حرة فولدت غلاما وكبر حتى بلغ نحوا من عشر سنين أو قريبا منها وكان يسكن القلزم فركب البحر يريد الحجاز، فيحمل ابنه في المركب ولم يستأذن أمه فيه فغرق المركب فغرق الغلام ونجا أبوه فقامت أمه وأولياء أمه يتكلمون في ذلك ويريدون أخذ العبد فيما حمل ابنه في المركب.
فقال مالك: لا أرى عليه في ذلك شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إذ لم يمت في البحر بجناية من أبيه عليه في ذلك، لأن الله تعالى قد أباح ركوبه بدليل قوله:
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]. لأنه يبعد أن لعدد الله من نعمه على عباده ما حظره عليهم، فإنما فعل أبوه ما يجوز له، فوجب أن لا يكون بذلك جانيا عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة صالح في دم على أن يعطي في كل سنة كذا وكذا وكان شرطه أن يعطاها جملة:

ومن كتاب شك في طوافه:
وسئل مالك عن رجل صالح في دم على أن يعطي في كل سنة كذا وكذا وكان شرطه أن يعطاها جملة، قال الذي عليه الإبل: آتيك بها رسلا رسلا يتبع بعضها بعضا، قال الآخر الذي له الإبل: أنا على شرطي أن لا آخذها إلا جملة واحدة.
قال مالك: ما أرى بأسا يأخذها كما قال رسلا رسلا، فرد عليه فرأى أن يعمل به، قيل له إنما شرط عليه في سنة ولم يسمها في شهر منها، قال: أرى أن يعطيه في وسطها يعني السنة.
قال محمد بن رشد: إنما وقع في الذي صالح في الدم على أن يعطى كذا وكذا من الإبل في كل سنة جملة فأراد الذي عليه الابل أن يأتي بها رسلا رسلا يتبع بعضها بعضا إن ذلك له لقول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فرأى أن من الاتباع بالمعروف والأداء بإحسان الذي أمر الله تعالى به ما دعا إليه الذي عليه الإبل أن يأتي بها رسلا رسلا، وإذا كان من حق الذي عليه الحق إذا حل عليه الحق وأعسر به يؤجل فيه بالاجتهاد على ما مضى في أول سماع ابن القاسم من كتاب المكاتب كان أحرى أن يكون الذي عليه الإبل في هذه المسألة ما دعا إليه من أن يأتي بالإبل رسلا رسلا.
وقوله ما أرى بأسا أن يأخذها كما قال رسلا رسلا معناه لا أرى بأسا بالقضاء بذلك إذ لا إشكال في أنه لا بأس أن يأخذها رسلا رسلا، ولو كان من حقه أن يأخذها جملة واحدة.
وأما قوله: إنه يعطيه إياها في وسط السنة إذ لم يسم أولها ولا أخرها ففيه دليل على أن من باع من رجل بيعا على أن يقضيه الثمن في شهر كذا أو في سنة كذا أنه بيع جائز ويحل عليه الثمن في وسط الشهر أو في وسط السنة خلاف ما يروى عن ابن لبابة من أنه قال: البيع على هذا فاسد لأنه أجل مجهول، وقد أجاز في المدونة وغيرها البيع إلى الحصاد والجداد وجعله أجلا معلوما يحل على المشتري في عظم الحصاد والجداد، وكذلك لو باعه على أن يحل عليه الثمن في الحصاد والجداد، فسواء باعه على أن يؤدي إليه في الحصاد والجداد في عظمى الحصاد والجداد إذ ليس لأول الحصاد والجداد من آخره حد معلوم محصور فيحمل في الوجهين جميعا على عظمه، بخلاف الشهر إذا باعه على أن يعطيه الثمن في شهر كذا جاز البيع وحل عليه الثمن في وسطه بدليل هذه الرواية من جهة المعنى أن الشهر لما كان أوله من آخره معلوما كان وسطه معروفا يقضى بحلول الثمن عنده، وإذا باعه إلى شهر كذا وكذا حل عليه الثمن بحلوله لأن إلى غاية وهذا بين والحمد لله.

.مسألة المباشر للقتل خطأ لا يكون الدية عليه:

وسئل عن الرجل يحمل الغلام على دابته ابن اثنتي عشرة سنة إلى الماء يسقيها أو حيازة يخرج إليها وما أشبه ذلك فيصاب.
قال: أرى إن اتبع كان ذلك عليه، قلت له: فالرجل يأمر يتيما عنده أو ابن أخيه يركب دابته؟ قال: أراه مثله إن اتبع كان ضامنا له، قلت: أتراه على العاقلة؟ قال: نعم، قال مالك: وعندنا قوم يأمرون الغلمان أن يرقوا النخل فيصاب أحدهم فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء أنه خطأ والدية فيه على العاقلة، وهو كما قال، لأنه إذا كان المباشر للقتل خطأ لا يكون الدية عليه وتكون على العاقلة كان هذا أحرى أن تكون الدية فيه على العاقلة، وذلك عندي بخلاف الذي دلى الرجل في البئر بالحبل ثم أرسله لما خشي على نفسه على ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا ولو وطئ الصبي بالدابة على رجل لكانت ديته على عاقلة الصبي قال في المدونة: ولا ترجع عاقلة الصبي على عاقلة الرجل، وقال أشهب إنها ترجع عليه وبالله التوفيق.

.مسألة الأم أحق بالقيام بالدم من العصبة:

ومن كتاب الشجرة:
وسئل مالك عن رجل ضربه رجلان فادعى الرجل، وذكر أن فلانا وفلانا ضرباه، وأن أحدهما لم يجرحه والآخر هو الذي جرحه وقتله، فحبسا فصالح أولياء الضارب الذي ادعى عليه بالقتل أولياء المقتول على ثلثي الدية، وكانت له أم فقال أولياء القاتل كيف أصالحكم وتم أمه؟ فقال أولياء المقتول صالحونا ونحن نبريكم من أمه، ففعلوا فأتوا الأم فأبت أن تصالح أو تعفو إلا أن يتموا الدية أو يقوم بالدم.
قال: ذلك لها، قيل له: فلا ينفع صلح الأولياء؟ قال: لا، قيل له: فإن الأم قد ماتت؟ قال: فورثتها يقومون بالذي كان لها من ذلك، إن شاءوا صالحوا وإن شاءوا قاموا بالدم ولا ينفع ما صالح عليه الأولياء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن صلح الأولياء بما صالحوا عليه به من ثلثي الدية إنما كان بعد أن أقسموا واستحقوا الدم بقسامتهم، ولو كان صلحهم قبل أن يقسموا لم يكن للأم في ذلك كلام بوجه، إذ لا سبيل إلى قتل دون قسامة.
وقوله: إن الأم أحق بالقيام بالدم من العصبة وإن كان الدم إنما ثبت بقسامتهم هو مذهبه في المدونة أن الدم سواء ثبت ببينة أو بقسامة إذا كان الأولياء بنات وإخوة وأخوات وعصبة أو أما وعصبة فمن قام بالدم من البنات والإخوة أو الأخوات والعصبة أو الأم والعصبة فهو أحق فمن عفا ولا عفو إلا بالاجتماع منهم على العفو.
وفي المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها- هذا وهو مذهبه في المدونة.
والثاني- أن هذا إنما يكون إذا ثبت الدم ببينة، وأما إذا ثبت بقسامة العصبة فلا حق للنساء معهم في عفو ولا قيام لأنهم هم الذين استحقوا الدم بقسامتهم، وهو قول ابن القاسم ومذهبه في رسم الجواب من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب.
والثالث- أنه إن ثبت الدم ببينة فالنساء أحق بالعفو والقود من العصبة لأنهن أقرب منهم، فلا حق للعصبة معهن إذا لم يثبت الدم بقسامتهم، ولو ثبت بقسامتهم فمن قام بالدم كان أحق به ولا عفو إلا باجتماعهم والله الموفق.

.مسألة القسامة لا تكون فيمن قتل بين الصفين:

وسئل عن رجل كان بينه وبين رجلين قتال فأتي وبه أثر ضرب وجراح فزعم أن فلانا وفلان قتلاه، وأنه قد أثر فيهما في مواضع سماها، وأنهما اللذان عملا به هذا، فأقام نحوا من يومين حيا ثم مات.
قال مالك: أرى أن يسجنا حتى يكشف أمرهما وإنه ليستحب في مثل هذا أن يصطلحوا فأما القصاص في مثل هذا فلا أعلمه.
قال محمد بن رشد: إنما استحب في هذا الصلح بعد الكشف فيه والبحث ولم ير القصاص فيه بالقسامة وإن كان مذهبه أن قول المقتول دمي عند فلان لوث يوجب القسامة والقود من أجل ما ذكره من أنه قاتلهما فأثر فيهما فدل ذلك على أنه أراد قتلهما كما أرادا قتله فاتهمه- في تدميته عليهما من أجل ذلك، وقد روي عنه أنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين، فقيل معنى ذلك بالتدمية من أجل أنهم تقاتلوا على زحل وعداوة، فلم يقبل تدمية من دمى من أحد الطائفتين على أحد من الطائفة الأخرى من أجل ما بينهم من الزحل والعداوة، وهذا أحرى لظهور العداوة بين المدمي والمدمى عليهما بأعيانهما، وقيل معنى قوله إنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين بحال إلا بقول المقتول ولا بشاهد على القتل، وهو قول ابن القاسم من رواية سحنون عنه في رسم الجواب من سماع عيسى من هذا الكتاب، وقيل معنى قوله: إنه لا قسامة بينهم بدعوى أولياء المقتول على الطائفة التي نازعت طائفته، وأما إذا دمى المقتول على واحد منهم أو شهد عليه بالقتل شاهد واحد فالقسامة في ذلك واجبة، وهو قول ابن القاسم أيضا من رواية عيسى عنه في رسم الجواب المذكور، وقول مطرف وابن الماجشون وأصبغ في الواضحة وقول أشهب في المجموعة، قال: لأن كونه بين الصفين لم يزد دعواه إلا قوة، قال ابن المواز: وإلى هذا رجع ابن القاسم بعد أن كان يقول لا قسامة فيمن قتل بين الصفين بدعوى المقتول ولا بشاهد، ويحتمل أن يريد بقوله ولا بشاهد إذا كان الشاهد من طائفة المدمي؛ لأنه لا تجوز شهادة أحد من إحدى الطائفتين على أحد من الطائفة الأخرى، وإذا كان من إحدى الطائفتين على ما حكى ابن حبيب في الواضحة من أنه إذا جرح أحد منهم فعقل جرحه على الطائفة التي نازعته، وليس له أن يقتص من أحد بقوله إلا أن يكون له شاهد على ذلك من غير الطائفتين، فيحلف مع شاهده من غير الطائفتين، وأما مع شاهد من طائفة القاتل فيجري ذلك على الاختلاف في القسامة مع الشاهد الذي ليس بعدل، وأما مع شاهد من طائفة المقتول فلا إشكال في أن القسامة لا تكون معه، وقد قال ابن المواز في قول ابن القاسم إنه لا قسامة فيمن قتل بين الصفين بقول المقتول ولا بشاهد على القتل أنه خطأ؛ لأنه حمل قوله على ظاهره من أن القسامة لا تكون فيمن قتل بين الصفين بحال وإن كان الشاهد الذي شهد على القتل من غير الطائفتين، وتأويل قوله أولى من تخطئته وبالله التوفيق.

.مسألة الدية على العاقلة:

ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا:
وسئل مالك عن صبيين رمى أحدهما صاحبه بحجر؛ فنزي في رميته، فمات، فضمن عمه الدية عنه، ثم رفع ذلك إلى السلطان فقال له السلطان: ليس ذلك عليك، وإنما ذلك على العاقلة وإن عمد الصبي خطأ فضمن ذلك العاقلة وكتب بذلك كتابا إلى السلطان الذي في ناحيتهم فضمنهم ذلك وأخذ منهم أول نجم والثاني، ثم إن عاقلة صاحب الغلام لقوا الرجل الذي كان ضمن لهم عم الغلام بعد أخذهم نحوا من ثلثي العقل.
قال مالك: ليس ذلك لهم إذا كانوا قد رضوا واقتضوا فلا أرى شيئا يلزمك وليس عليك شيء.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة ثم إن عاقلة صاحب الغلام لقوا الرجل الذي كان ضمن لهم عم الغلام كلام فيه التباس؛ لأنه عبر عن الورثة بالعاقلة تجاوزا أو أضمر وقدم وأخر، ووجه الكلام أن يقول ثم إن ورثة الغلام المقتول صاحب الغلام القاتل لقوا الرجل عم الغلام القاتل الذي كان ضمن لهم، والمسألة فيها نظر؛ لأن الأمر إذا رفع إلى السلطان فحكم بإسقاط الضمان عن العم وألزم العاقلة الدية وكتب بذلك كتابا إلى السلطان الذي في ناحيتهم فقد لزم الورثة اتباع العاقلة؛ وسقط طلبهم عن العم، لأن الحكم قد فسخ الضمان عنه وإن لم يرضوا ولا قبضوا لأنه حكم يلزمهم فالمعنى إنما هو أن العم هو الذي رفع الأمر إلى السلطان، وقال له: إني ضمنت الدية عن ابن أخي وأنا أظن أنها لازمة له، فقال له: ليس ذلك عليك لأنها إنما تجب على العاقلة، فضمن العاقلة إياها وكتب بذلك كتابا إلى السلطان الذي من ناحيتهم دون أن يحضر ورثة المقتول وتسمع حجتهم، فإن لم يقروا له بما ادعا من أنه ظن أنها كانت لازمة لابن أخيه استحلفه على ذلك، ونفذ حكمه بإسقاط الطلب عنه وتضمين العاقلة للدية، فلما قصر في ذلك بقي الورثة على حجتهم، وكان لهم اتباع العم بما ضمن لهم إلا أن يبين رضاهم باتباع العاقلة وإسقاط طلبهم للعم بقبض بعض النجوم من العاقلة كما قال في الرواية، ولو لم يرضوا ولا قبضوا من النجوم ما يتبين به رضاهم لكان من حقهم أخذ العم بما ضمن لهم.
إلا أن يقول لم أعلم أن الدية على العاقلة وظننت أنها على ابن أخي فيكون القول قوله في ذلك مع يمينه إذا كان يشبه أن يجهل ذلك، لأنه محمول على غير العلم حتى يثبت عليه العلم، أو يكون ممن لا يجهل مثل هذا على ظاهر الرواية وما في كتاب الصلح من المدونة، وقد قال ابن المواز: يلزمه ما ضمن حتى يعرف أنه جهل وظن أن الدية على ابن أخيه، قال ابن المواز: وأما إذا رد ذلك على العاقلة فقد لزمهم، والذي قاله ابن المواز صحيح إذا ردت الدية على العاقلة بحكم تام صحيح، وأما إذا لم يتم الحكم على وجهه فما قاله في الرواية من أن الورثة لا يلزمهم اتباع العاقلة إلا أن يرضوا بين على ما بيناه وكذلك لو حملت العاقلة شيئا ظنت أنه يلزمها ثم رجعوا فلهم الرجوع ما لم يطل الأمر بعد الدفع السنين الكثيرة التي يرى فيها أن قد علموا ذلك، قاله في كتاب ابن المواز والله الموفق.

.مسألة الحدود التي تدرأ بالشبهات لا يسجن المدعي عليه فيها لمجرد الدعوى:

ومن كتاب تأخير صلاة العشاء:
وسئل مالك عن امرأة نزل بها رجل، فمات، فجاءت، فاتهمت به فجاء وليه يسأل مالكا عن ذلك ويتهمها ويقول إني اتهمتها بوجه لا أستطيع بته.
قال مالك: أرى أن يكشف أمرها فإن كانت غير متهمة لم أر أن تحبس يوما واحدا ويخلى سبيلها، فقيل له أتهدد؟ فقال: لا أرى ذلك إذا كانت غير متهمة، قال ابن القاسم: فإن كانت متهمة حبست ولم يعجل تسريحها لعلها لا يعثر عليها بشيء، فإن لم يوجد شيء وطال حبسها استحلفت خمسين يمينا وخلي سبيلها.
قال محمد بن رشد: ذهب بعض أهل النظر إلى أن رواية ابن القاسم عن مالك في هذه الرواية فإن كانت غير متهمة لم أر أن تحبس يوما واحدا مثل قوله في المدونة في الذي يدعي قبل الرجل حدا من الحدود فيقدمه إلى القاضي، ويقول بينتي حاضرة أجيك بها غدا أو العشية إن ذلك إن كان قرينا أوفقه ولم يحبسه إن رأى لذلك وجها وكان أمرا قريبا خلاف قوله في سماع عبد الملك بن الحسن بعد هذا من هذا الكتاب: إن غير المتهم لا يحبس في الدم إلا الأمر القريب اليوم واليومين والثلاثة، والذي أقول به أن ذلك ليس باختلاف من القول، والفرق بين هذه المسألة وبين مسألة سماع عبد الملك أن الطالب في مسألة عبد الملك ذكر أن له بينة على ما ادعاه عليه من القتل وسأل أن يحبس حتى يأتي ببينة، ولم يسأل ذلك الطالب في هذه المسألة، ولو سأل ذلك لكان من حقه أن يحبس اليوم واليومين والثلاثة كما قال ابن القاسم في سماع عبد الملك، لأن الدم شديد يلزم فيه من الشدة والأخذ بالشبهة ما لا يلزم في غيره، وإنما لم ير في مسألة المدونة على المدعي عليه السجن بمجرد الدعوى، وإن قال الطالب: إن له بينة على دعواه لأنه إنما سأله على الحدود لا على القتل، والحدود بخلاف القتل؛ لأنها تدرأ بالشبهات فالحدود التي تدرأ بالشبهات لا يسجن المدعي عليه فيها لمجرد الدعوى على ما قاله في المدونة، والقتل بخلاف ذلك إذا قال المدعي: إن له بينة على دعواه حبس بمجرد الدعوى اليوم واليومين والثلاثة إن لم يتهم، وإن كان من أهل التهم حبس الشهر ونحوه، وإن قويت عليه التهمة بما أشبه به عليه معالم يتحقق تحققا يوجب القسامة حبس الحبس الطويل، قال ابن حبيب في الواضحة: حتى يتبين براءته أو يأتي عليه السنون الكثيرة، قال مالك: ولقد كان الرجل يحبس في الدم باللطخ والشبهة حتى إن أهله ليتمنون له الموت من طول حبسه، ويحتمل أن يقول: إنه إن كان المدعي عليه القتل ممن لا تقع عليه التهمة للمعرفة بحاله لم يسجن بمجرد الدعوى، وإن ادعى الطالب أن له بينة على ما ادعاه على ما قاله مالك في هذه الرواية، وإن كان المدعي عليه القتل ممن لا تقع عليه التهمة للجهل بحاله سجن بمجرد الدعوى اليوم واليومين والثلاثة إذا ادعى الطالب أن له بينة على دعواه على ما قاله في سماع عبد الملك، فهذا وجه يمكن أن يفرق به بين المسألتين ولا يجعل ذلك اختلافا من القول، ويحتمل أن يفرق بين هذه الرواية وبين ما في سماع عبد الملك أنه لم يحقق الدعوى في هذه الرواية وحققه في سماع عبد الملك.
وفي قوله في الرواية إنها لا تهدد إذا كانت غير متهمة دليل على أنها تهدد إذا كانت متهمة، والوجه في ذلك أنها قد تقر إذا هددت فتتمادى على الإقرار بعد ذلك وهي آمنة فتؤخذ به ما لم ترجع عنه، إذ لا يلزمها الإقرار بالتهديد.
وقوله في المتهمة: إنها تستحلف خمسين يمينا ويخلى سبيلها إذا طال حبسها. مثله في سماع أبي زيد وهو مبين لما سكت عنه من ذلك في سماع عبد الملك وبالله التوفيق.

.مسألة الكفارة على الأم التي سقت ابنها الدواء فشرق به فمات:

ومن كتاب البز:
وسئل مالك عن امرأة يكون لها الصبي فتصيبه القروح في حلقه فتسقيه أمه الدواء فيشرق به فيموت أترى عليها كفارة؟
فقال: لا، ثم قال أما أن أراه واجبا عليها أو قضاء عليها فلا، وكذلك الطبيب مثلها يسقي الدواء الرجل فيموت، فلا أرى عليه شيئا، وإن كانا موسرين، فإذا أرادا أن يفعلا ذلك من غير أن رآه عليهما واجبا فهو حسن.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير الكفارة واجبة على الأم التي سقت ابنها الدواء فشرق به فمات؛ لأنها فعلت ما يجوز لها من سقيها إياه الدواء فلا فرق بين أن يشرق به فيموت أو بالطعام الذي تطعمه إياه أو بالماء تسقيه إياه.
ولو أخطأت عليه فسقته دواء لا يوافقه فمات منه لوجبت عليها الكفارة، وكذلك الطبيب إذا أخطأ على المريض فسقاه ما لا يوافق مرضه فمات لكانت عليه الكفارة، بخلاف إذا سقاه ما يوافق مرضه فمات، لأنه إذا سقاه ما يوافق مرضه فمات لم يخط كما لم تخط المرأة على ولدها في سقيها إياه الدواء الذي شرق به فمات.
والدية تابعة للكفارة تجب على العاقلة في المكان الذي تجب فيه الكفارة وتسقط في المكان الذي تسقط فيه الكفارة، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفيا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وتأتي المسألة أيضا في رسم المجالس من سماع أصبغ من هذا الكتاب وبالله التوفيق.

.مسألة الحمل الذي يسقط على الجارية:

ومن كتاب باع غلاما:
وسئل مالك عن الحمل الذي يسقط على الجارية، قال: أراه ضامنا على الجمال إذا كان حرا فعليه، وإن كان مملوكا كان ذلك في رقبته إلا أن يفديه سيده بقيمتها.
قال محمد بن رشد: يريد مسألة المدونة في الجمال الذي حمل على بعير عدلين فسار بهما وسقط الزقاق فانقطع الحبل فسقط أحد العدلين على جارية فقتلها والحمل لغيره ولكنه أجير حمال.
قال مالك: أراه ضامنا ولا شيء على صاحب البعير فبين هاهنا وجه الضمان الذي أجمله في المدونة، فقال: إن كان حرا فعليه، يريد إن كان الجمال حرا فعليه قيمة الجارية وإن كان مملوكا كان ذلك في رقبته، وذلك بين على ما قاله؛ لأن الجناية على العبد والأمة تستوي فيما يلزم من ضمانها العمد والخطأ، ولو كانت الجارية حرة لكانت الدية في ذلك على عاقلة الجمال إن كان حرا وفي رقبته إن كان عبدا يفديه سيده بها أو يسلمه، وقد مضى في آخر الرسم الأول ذكر الاختلاف هل يفديه بالدية حالة أو مؤجلة فلا معنى لإعادته.

.مسألة السن إذا أصيبت فاصفرت:

ومن كتاب سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قال ابن القاسم في السن إذا أصيبت فاصفرت فإنها تعقل بقدر شينها وليس فيها العقل كاملا حتى تسود، وكذلك إذا تغيرت فليس فيها العقل حتى تسود.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم يبين مذهبه في المدونة، إذ لم يعط في المدونة عن هذا جوابا بينا، ورد الأمر فيه إلى النكر فقال: ما سمعنا من مالك إلا إذا اسودت فقد تم عقلها فلا أدري ما الخضرة أو الحمرة أو الصفرة إن كان ذلك مثل السواد؟ فقد تم عقلها وإلا فعلى حساب ما نقص. وقال أصبغ مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية ليس ذلك مثل السواد إنما فيه حكومة باجتهاد الإمام إلا أن له في اخضرارها أكثر مما ناله في احمرارها، وله في احمرارها أكثر مما له في اصفرارها وبالله التوفيق.

.مسألة مات تحت الضرب أو بقي بعد الضرب مغمورا لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم:

ومن كتاب اغتسل من غير نية:
وسئل عن الرجل يضرب الرجل الرأس فيمكث مغمورا لا يفيق وقد شهد على ضربه ثم يموت، فقال إذا غمر فكان للموت ثم مات فلا قسامة فيه، وليست القسامة إلا فيمن أفاق أو طعم أو فتح عينه وتكلم وما أشبه ذلك.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة، أنه إذا مات تحت الضرب أو بقي بعد الضرب مغمورا لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم ولم يفق حتى مات، فهذا الذي لا قسامة فيه، وأما من أكل وشرب وعاش ثم مات بعد ذلك ففيه القسامة؛ لأنه لا يؤمن من أن يكون إنما مات من أمر عرض له مرض أو غير ذلك، وهذا ما لم ينفذ له مقتل وأما إذا نفد له مقتل بما أصيب به فلا قسامة فيه، وإن عاش بعد ذلك وتكلم وشرب وأكل كما أن البهيمة إذا أصاب السبع لها مقتلا فلا تذكى ولا تؤكل باتفاق، وإن كانت الحياة فيها بينة، وإنما اختلف إذا لم يصب لها مقتل إلا أنها قد بلغت من ذلك إلى حد يعلم أنها لا تعيش منه، وقد مضى بيان ذلك والقول فيه وفي المقاتل ما هي مستوفى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الضحايا وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة الرجل يقتل الرجل بالعصا:

ومن سماع أشهب وابن نافع عن مالك قال: وسئل مالك عن الرجل يقتل الرجل بالعصا فيمكن منه ولي المقتول أيقتله بالعصا أو بالسيف؟
قال ذلك له، إن شاء قتله بالسيف وإن شاء قتله بالعصا، وقد سمعت ذلك أنه يقتل بالعصا، قيل له: أفله أن يقتله بالعصا؟ قال: نعم إذا ضربه ضربة واحدة يجهز عليه فيها لا يكون شيئا مختلفا يقطع عليه الضرب ولا يجهز عليه، فأما إذا كان هكذا يضرب ضربات فلا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أنه يقتل بمثل ما قتل من عصا أو حجر أو خنق أو تغريق في نهر أو بسم وكذلك النار على قياس قوله في السم خلاف قول أصبغ إنه لا يقاد بالسم ولا بالنار، وسيأتي بيان هذا في سماع عبد الملك، وقال فيها: إنه إن كان ضربه عصوين فضرب القاتل عصوين فلم يمت إنه يضرب بالعصا يريد مع أن يقصد بكل ضربة منها الإجهاز عليه كما قال في هذه الرواية فبعض ذلك يفسر بعضا لا اختلاف في شيء من ذلك، والحجة لمالك فيما ذهب إليه من أن القاتل يقتل بمثل القتلة التي قتل بها اتباع ظاهر قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] لأن القصاص إنما أخذ من قص الأثر وهو اتباعه، فكان المعنى أن يتبع الجارح والقاتل فيفعل به ما فعل بالمجروح والمقتول، وقد جاء في السنة بيان ذلك وهو ما روى قتادة عن أنس «أن يهوديا رض رأس صبي بين حجرين فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرض رأسه بين حجرين» وهو ما روى هشام بن زيد عن أنس بن مالك قال: «عدا يهودي في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورض رأسها فأتى بها أهلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي في آخر زمن وقد أصمتت فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتلك أفلان؟ لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، قيل لرجل آخر غير الذي قتلها فأشارت برأسها أن لا، فقال لفلان لقاتلها فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض رأسه بين حجرين» وما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» لم يأخذ به مالك إما لأنه لم يبلغه، وإما لأنه لم يصح عنده، فاتبع ظاهر قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] مع ما روي من قضاء من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اليهودي الذي أمر برض رأسه قصاصا مثل ما فعل بالجارية.
وما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «أحسن الناس قتلة أهل الإيمان» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية شداد بن أوس: «إن الله تعالى كتب الإحسان في كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحدد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» لا حجة فيه على مالك؛ لأن المعنى فيه عنده إنما هو فيمن وجب عليه قتل في غير قصاص، وما احتج المخالف من أهل العراق على مالك في هذه المسألة من قوله: أرأيت لو نكح رجل رجلا فقتله بذلك الجب للوالي أن يفعل بالفاعل ما فعل؟ هو من الاحتجاج المرغوب عنه الذي لا يصدق مثله عمن هو من أهل التحصيل لقوله.
وأما قوله: أرأيت لو رمى إنسان رجلا بسهم فقتله أكان ينصب ثم يرمى حتى يقتل؟ وقد «نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا» ونهى عن المجثتة وهي الشاة ترمى بالنبل حتى تقتل، فلا يلزم مالكا لأنه يقول بذلك، وإنما يقول إنه يجهز عليه بمثل القتلة التي قتل دون أن يقصد إلى تعذيبه فلو رمى رجل رجلا بسهم فقتله لكان الواجب في ذلك على مذهب مالك أن يقتل طعنا بمثل السهم الذي رماه به فقتله لا أن ينصب غرضا للسهام، وقد روى عن سحنون أنه قال إذا كان العصا والحجر يجهز قتل بمثله، وإذا كان غير مجهز لم يقتل به وقتل بالسيف، وكان القتل مما يأتي عليه لأن الحجر إذا لم يكن مجهزا فإنما هو عذاب، أرأيت لو أن رجلا رماه رجل بحجر فقتله برمية واحدة أكنت توقفه فيرمى رمية واحدة؟ فإن لم يمت رجم أبدا بالحجارة حتى يموت، لا يكون هذا ولا يقتل به، ولكن إذا كان الحجر مجهزا قتل به وإلا لم يقتل به، وقتل بالسيف، وكذلك العصا وجميع هذا الأصل فاحمله هكذا، وإنما يقتل على مذهب مالك بمثل القتلة التي قتل بها من حجر أو عصا أو غيره من ثبت عليه القتل بذلك، وأما من قتل بقسامة فلا يقتل إلا بالسيف وبالله التوفيق.